انطلاق نقاشات مهمة اليوم في التجريبي حول المسرح العربي في عصر ما بعد العولمة

المسرح العربي في عصر ما بعد العولمة يواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على هويته وتأثيره وسط تُحولات عالمية متسارعة؛ فموقف المسرح العربي الحالي يعكس صراعًا بين الأصالة والابتكار، بين التقليد والتجديد، وبين التفاعل الحيّ والمتطلبات الرقمية الحديثة.

كيف يتطور المسرح العربي في عصر ما بعد العولمة؟

في ظل التطورات الهائلة في الوسائل الرقمية والتقنيات الحديثة، يبقى المسرح العربي محكومًا بالحفاظ على جوهره الفني القائم على التفاعل المباشر مع الجمهور، رغم سيطرة الوسائط الرقمية التي تُغير المشهد الثقافي بسرعة فائقة، وتفرض واقعًا جديدًا يتداخل فيه الفن مع التكنولوجيا والثقافات المتنوعة. لذلك، لا بد أن تتبنى المؤسسات المسرحية مقاربات تجمع بين الأصالة والابتكار، وتوظف التقنيات الحديثة بشكل يُثري المشهد المسرحي، مثل الدمج بين العرض البصري المبهِر والصوت الحي، بحيث يستمر المسرح كمساحة تفاعل إنساني عميق، وليس مجرد وسيلة عرض سريعة الاستهلاك.

الهوية الثقافية وأداء المسرح الغامر في المملكة العربية السعودية

تُجسد تجربة “عرض ترحال” التي أطلقتها وزارة الثقافة السعودية نموذجًا متقدمًا للمسرح العربي في عصر ما بعد العولمة، إذ اعتمدت على تقديم عرض مسرحي ضخم و”غامر” يرتكز على أعلى المعايير العالمية، ليعبّر عن الثقافة السعودية الغنية والمتنوعة، ويُبرز التراث الأصيل كمصدر حيوي لتشكيل مستقبل المملكة ورؤيتها “رؤية 2030”؛ حيث تم بناء المسرح في موقع تاريخي بمدينة الدرعية، مهد الدولة السعودية الأولى، مما يضفي رمزية كبيرة على العرض وقيمته الثقافية.
يشير د. صالح زمانان إلى أن العرض يستخدم “التناص” كمنهج فني يعكس العلاقة بين الهوية والأداء المسرحي، ويمزج بين التراث والحداثة عبر نصوص وتقنيات بصرية وأدائية مبتكرة، ليبرز الهوية الثقافية كمفهوم متغير وديناميكي، يتشكل من خلال الحوار بين النصوص المختلفة، ومع الثقافات المتعددة داخل عالم العولمة المسرحي.
ويُظهر “تَناص” العرض في ثلاثة جوانب رئيسية: التناص مع المسرح العالمي، مع الفنون الأدائية الحديثة، ومع التراث العربي السعودي، وهو ما يجعل من العرض نموذجًا متميزًا لتمثيل الهوية المسرحية في زمن ما بعد العولمة.

التحولات الكبرى في المسرح اللبناني بين المثالية والواقعية

تناولت الباحثة آن ماري سلامة التحولات التي طرأت على المسرح اللبناني عبر جهود الأخوين رحباني وزياد الرحباني، حيث يُعد المسرح في لبنان انعكاسًا حيًا لتداخلات الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في بلد متعدد الطوائف والتوجهات.
المسرح عند الأخوين رحباني كان شاعرًا ومثاليًا، يرفع من قيمة الوطن والإنسان بمضمون شعري ومستوى فني يعانق الأسطورة، في حين قدم زياد رحباني مسرحًا واقعيًا وساخرًا يعكس الأزمات والتناقضات الناتجة عن الحرب الأهلية والظروف الاجتماعية الصعبة، معتمداً على لغة محكية قريبة من الجمهور، ما جعل أعماله أكثر تأثراً بالواقع اليومي.
يُشير ذلك إلى أن المسرح اللبناني ما هو إلا مرآة للحياة المتقلبة في لبنان، حيث وجد المسرح مساحات للتعبير الحر والنقد السياسي والاجتماعي، وهو ما ساعد على ظهور فرق مسرحية تجريبية عديدة شرعت في كسر القوالب التقليدية، وإعادة تشكيل العلاقة مع الجمهور، ممثلة بذلك حالة نادرة من الحرية الفنية ضمن العالم العربي.

الفترة نوع المسرح وأبرز الخصائص الرموز المسرحية التأثير على الهوية المسرحية
قبل الحرب الأهلية مسرح مثالي وشاعري، يستخدم لغة فصحى الأخوان رحباني تقديم رؤية وطنية شاعرية تعزز الوحدة الوطنية
فترة الحرب وبعدها مسرح واقعي وساخر، لغة محكية قريبة من الناس زياد الرحباني عكس الانقسامات الداخلية والأزمات الاجتماعية والسياسية
منذ الستينيات وحتى اليوم فرق مسرحية تجريبية تتبع أساليب مختلفة محترف بيروت، الحكواتي، زقاق، أشكال ألوان تجديد العلاقة مع الجمهور وتقديم أشكال بديلة من المسرح

هذه التحولات في المسرح اللبناني تؤكد أن المسرح لا يمكن فصله عن البيئة الحاضنة له، فهو يتغير بفعل ظروف الحياة، ويظل أداة تعبيرية حية يعكس تناقضات المجتمع وتغيراته، ويجسد تجربة مسرحية فريدة تتفاعل مع البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية المحلية.

بهذا، يستمر المسرح العربي في عصور ما بعد العولمة متحركًا بين المحافظة على قواه التقليدية وتجارب التجديد والابتكار الفنية؛ ليظل مسرحًا حيًا ينبض بالحيوية والاتصال الإنساني، رغم التحديات المختلفة، ويعبر عن هويات متعددة في فضاءات فنية جديدة تتجاوز ما كان مألوفًا، مع احتضان تقنيات العصر والاندماج الثقافي.