«مشاعر مُلتهبة».. القرارات السياسية تنتقل من الحسابات الباردة إلى حرارة العاطفة

«مشاعر مُلتهبة».. القرارات السياسية تنتقل من الحسابات الباردة إلى حرارة العاطفة
«مشاعر مُلتهبة».. القرارات السياسية تنتقل من الحسابات الباردة إلى حرارة العاطفة

المشاعر تحظى بدور متزايد في الممارسة السياسية الحديثة، فهي لم تعد مجرد ردود أفعال تلقائية، بل أصبحت تؤدي دورًا حاسمًا في تشكيل القرارات السياسية وتوجيه تفاعل الجماهير مع الأحداث. الابتعاد عن العقلانية البحتة لصالح العاطفة ليس مجرد ظاهرة عرضية، بل يمثل تحولًا عميقًا في فهمنا لديناميات السياسية اليوم. من هنا، نحتاج إلى إعادة النظر في العلاقة بين المشاعر والسياسة، وكيف يمكن لهما التفاعل لتشكيل الحركات الاجتماعية وتوجيه السلطة.

دور المشاعر في توجيه الفعل السياسي

لم تعد السياسة تعتمد فقط على تحليل المصالح وتقييم الوقائع، بل أصبحت تحاكي مشاعر الأفراد والجماعات. مشاعر كالخوف، الغضب، الأمل، والحنين أصبحت أساسيات في صنع القرار، وغالبًا ما تستغل الأنظمة هذه المشاعر لتوجيه السياسات العامة. مثلًا، يتم تضخيم مخاوف الجماهير من تهديدات معينة لترسيخ شرعية قوانين أو إجراءات أمنية مشددة. وفي هذا السياق، يُستغل الشعور بعدم الأمان لتوسيع سلطات الدولة وتعزيز آليات الرقابة.

السياسة الحديثة باتت “هندسة عاطفية” تعمد إلى تفعيل مشاعر خاصة مثل الأمل لجذب التأييد أو تعزيز الشعور بالخطر لفرض السياسات. ما أن يتحول هذا الشعور الجماعي إلى خطاب سياسي، حتى يغدو أداة مؤثرة في بناء شرعية الخيارات المتّبعة. فكثير من النجاحات السياسية الحالية تستند إلى قدرة الخطاب الرسمي على مجاراة المزاج العام وإعادة تشكيل مزاج الشعوب على نحو يخدم الأهداف السلطوية.

السياسة بين العاطفة والعقلانية

تاريخيًا، اعتُبر الفعل السياسي نشاطًا عقلانيًا يوازن بين المصالح ويحدد أولويات بناء الدولة. لكن مع ظهور التحديات الكبرى، كشفت التجربة المعاصرة عن قُصور العقل وحده في تفسير السلوك السياسي. أصبح من الواضح أن المشاعر قادرة على تشكيل الوعي الجماعي، حيث نجد الأفراد يتأثرون بما يشعرون به اتجاه قضية معينة أكثر من الاستناد إلى المنطق السليم أو الحجة القاطعة. على سبيل المثال، عندما يتفاقم الشعور بالغضب أو الظلم الاجتماعي، يتحرك الشارع باندفاع نحو أشكال دعم المعارضة أو الاحتجاج.

لهذا، الفعل السياسي اليوم ليس مجرد مجموعة من الحسابات العقلانية، لكنه مسار وجداني تندمج فيه المشاعر والحقائق لتوجيه البشر نحو اتخاذ قرارات قد تكون مصيريّة. بهذا، غدت الأحاسيس من العناصر الفاعلة التي تُستخدم لصناعة خطاب دقيق يُخاطب عقل الجمهور وعاطفته في آنٍ واحد.

إعادة تعريف المواطن والسياسة عبر المشاعر

السلطة لم تعد تمارس دورها عبر فرض القوانين فقط، بل تعيد تشكيل المواطنين انطلاقاً من تغذية مشاعر بعينها. مشاعر الغضب على الفساد، الخوف من المستقبل، وحتى الحنين إلى الماضي، أصبحت أدوات تُستخدم لخلق حالة وجدانية مشتركة تعزز الولاء وتُسهل تمرير السياسات. الإعلام هنا يقوم بتضخيم مشاعر معينة ودفعها إلى مركز النقاش العام.

تعتبر الباحثة “سارة أحمد” أن المشاعر ليست فردية، بل اجتماعية، حيث تُعاد صياغتها وإنتاجها بشكل جماعي عبر الرموز والخطابات. من هنا، ينشأ مفهوم “السياسة العصبية” الذي ينقل المشاعر من مجرد حالة انفعالية معزولة إلى قوة تفاعلية تؤثر في تماسك الجماعة وتُسهم في تشكيل السلوك الجماعي، مثل التعبئة الانتخابية أو الاحتجاج.

مفهوم توضيح
الهندسة العاطفية استغلال العواطف كمحرك للقرارات السياسية
السياسة العصبية تركيز السلطة على مخاطبة البُعد اللاواعي للأفراد

باختصار، المشاعر باتت محورية لفهم السياسة الحديثة. من دون تفهم هذا الجانب العاطفي وإدراجه ضمن أدوات تحليل الواقع السياسي والاجتماعي، تبقى قراءتنا للواقع مبتورة وغير مكتملة. السياسة لم تعد أرقامًا وتحليلاً فقط، بل قصة متكاملة تُروى عبر وجدان البشر.